"إن هذا الاختراع سيُعوّد الناس على التذكر لا الحفظ، سيجعلهم
يبدون بمظهر الحكماء وهم ليسوا كذلك، ستتوهّم بأنهم يعرفون الكثير رغم أنهم على
الأغلب جهلاء."
قد
تبدو الكلمات السابقة للوهلة الأولى واصفة لحالنا اليوم مع شبكات التواصل الاجتماعي
في ظل انتشار المعرفة السطحية والثقافة الوهمية والمثالية الزائفة، لكنها في حقيقة
الأمر تعود لسقراط حيث قالها قبل أكثر من ٢٤٠٠ سنة عن اختراع "الكتابة" الذي
يعتبر –جدلا- أهم اختراع بشري على الإطلاق!
إن
الأمر الذي غفل عنه سقراط حينما قام بشيطنة الكتابة أنه لولاها لما وصلت الفكرة
السابقة من ذهنه عابرة الزمان والمكان إلى ذهني
بنصّها كما كتبها تلميذه أفلاطون. رغم أن سقراط صدق في تأثير الكتابة السلبي على
ملكة الحفظ عند الإنسان، إلا أنه لم يلتفت لدورها الجوهري في تجاوز الذاكرة
البشرية، وصنع التاريخ، وحفظ الأفكار، وتنظيم الاقتصاد، وتسهيل الخطابات، ونشر
العلوم، ومراكمة المعرفة، وحماية الحقوق، وغير ذلك.
ومثلما
أن سقراط تذمر من الكتابة دون مراعاة لتأثيرها على مدار آلاف السنوات - تحديدا في
نقل أفكاره وتخليد ذكراه - فإننا اليوم نكرر ما فعله ولكن مع شبكات التواصل
الاجتماعي. نتذمر من آثارها علينا
دائما، لكن بعد مئات أو آلاف السنوات، ما الذي ستخبره عنا كل تلك المشاركات التي
نضيفها للإنترنت؟
التنبؤ بالمستقبل أمر صعب، لكن لنتأمل كيف ستكون نظرتنا للتاريخ لو كانت شخصياته الشهيرة تملك حسابات في شبكات التواصل الاجتماعي. ماذا لو كان "نيوتن" يملك حسابا في تويتر؟ كيف ستؤثر تغريداته التنجيمية على هيبته العلمية؟ ماذا لو كان هناك مقطع في يوتيوب يوضح عملية اغتيال القيصر؟ كيف ستتفق تفاصيل الفيديو مع لوحة "كاموتشيني" أو تراجيديا "شكسبير"؟ ماذا لو كان "ألكسندر" ينشر "سنابات" لأفعاله الشبابية الطائشة؟ كيف ستتغير نظرتنا له كأحد أعظم القادة بالتاريخ؟
التنبؤ بالمستقبل أمر صعب، لكن لنتأمل كيف ستكون نظرتنا للتاريخ لو كانت شخصياته الشهيرة تملك حسابات في شبكات التواصل الاجتماعي. ماذا لو كان "نيوتن" يملك حسابا في تويتر؟ كيف ستؤثر تغريداته التنجيمية على هيبته العلمية؟ ماذا لو كان هناك مقطع في يوتيوب يوضح عملية اغتيال القيصر؟ كيف ستتفق تفاصيل الفيديو مع لوحة "كاموتشيني" أو تراجيديا "شكسبير"؟ ماذا لو كان "ألكسندر" ينشر "سنابات" لأفعاله الشبابية الطائشة؟ كيف ستتغير نظرتنا له كأحد أعظم القادة بالتاريخ؟
إن
الهالة التي تصاحب الشخصيات الشهيرة بالتاريخ هي نتاج ما نقل إلينا عنها، أو ما
سمح بنقله، وهذا يعني أننا لا نستطيع معرفة كل ما قالوه أو نشروه، لأن الكتابة وإن
حفظت بعض المنقول فإن بعضه الآخر معرض للاندثار. كما أن الشخصيات
"العادية" من التاريخ أصبحت في طي النسيان، حيث لا قيمة لهم لتُحفظ كلماتهم.
لكن الأمر مختلف كليا اليوم مع شبكات التواصل الاجتماعي، فكل حرف يرفع إلى
الإنترنت تحت أي معرّف سيبقى إلى حد كبير مخلد فيه كما هو، وكل فيديو ينشر سيبقى
مخزنا في مكان ما مهما كانت هناك محاولات لطمسه. كونك تقرأ هذه الجملة
الالكترونية، فأنت تملك فرصة عظيمة لتنشر ما تريد أن يُعرف عنك، وذلك نقلا عن
نفسك. هذا أمر لم يكن موجودا قبل الإنترنت مثلما أن تدوين الأفكار لم يكن
موجودا قبل الكتابة.
أتساءل
أحيانا، إذا عاش البشر لآلاف السنوات بالمستقبل فإنهم حسب كل المؤشرات العلمية - وبمشيئة
الله - سيتمكنون من صنع مركبات فضائية تتيح لهم السفر بسهولة عبر الكواكب، كيف
سينظر البعض لأجدادهم وهم يقسمون صوتا وصورة بأن الأرض مسطحة؟
يشهد
التاريخ أن العنصريين مصيرهم النسيان والزوال، أما المناضلين للحريات فمصيرهم
التمجيد والبقاء. كيف ستكون صورة أولئك الذين خلدوا عنصريتهم اليوم في شتى وسائل
التواصل الاجتماعي؟ كيف سيشعر أحفادهم وهم يرون تغريدات لأجدادهم تطالب بقمع فئة
أنصفت أخيرا في زمانهم؟
كان
الراهب الألماني "أثانيسيوس كيرتشر" الذي عاش بالقرن السابع عشر يقارَن
في حياته بـ"ليوناردو دافينشي" نظرا لتعدد المهارات التي يتمتع بها. وقد
عرف عنه بأنه قام بفك شفرة الهيروغليفية المصرية، وكسب من خلال ذلك شهرة واسعة
وغدا كاتبا ناجحا. بعد وفاته بسنوات، قام الفرنسيون والإنكليز بفك شفرة الرموز
الهيروغليفية بدقة، واتضح أن "كيرتشر" كان يؤلف المعلومات من مخيلته
ويصيغها بأسلوب مقنع، وعلى الرغم من أنه عاش ذائع الصيت في حياته كمثقف إلا أن سمعته
تشوهت بعد وفاته بشكل لا يمكن ترقيعه إلى أبد الدهر.
كل
كلمة أو مقطع نقرر نشره اليوم على شبكة الإنترنت سيكون شاهدا علينا لمئات السنوات.
كل تغريدة نكتبها ستعكس جزءا من واقعنا. يوماً ما في المستقبل سيحتاج البشر إلى
معرفة معرّفاتنا فقط ليفتحوا صفحة مباشرة إلى فكرنا، فما الذين سيكتشفونه عنا؟
لم
يعلم سقراط ما آلت إليه الكتابة، ولم يعلم أبدا أن أفكاره ستكون مخلدة، ولا نعلم
نحن ما ستؤول إليه كلماتنا وصورنا في شبكات التواصل الاجتماعي، لكن التاريخ يخبرنا
أنه لا يرحم الظالمين ولا العنصريين ولا المُتَفَيْقهين ولا المخادعين. كل ما
نشاركه اليوم في شبكات التواصل الاجتماعي في أي مرحلة من حياتنا سيكون متاحا بشكل
مباشر لكل إنسان يعيش في المستقبل، وهذا الأمر - الرائع والمخيف بالآن ذاته - يغفل
عنه الكثير من الناس. فكر مرارا قبل نشر أي شيء مكتوب أو مرئي أو مسموع، إلا إذا
كنت تريد سمعة مؤقتة كـ"كيرتشر". قديما كان هناك من يحكي لنا سير
الشخصيات، اليوم أنت من يحكي للبشرية سيرتك.
متميز دائما 👍 سيخلد التاريخ مقالاتك قد يذكرها الاجيال كما يُذكر افلاطون وسقراط الان
ردحذفمتميز دائما 👍 سيخلد التاريخ مقالاتك قد يذكرها الاجيال كما يُذكر افلاطون وسقراط الان
ردحذفجزاك الله خير مقال جميل وفيه عمق
ردحذفبمجرد تعرضك لصاحب رأي مخالف لك " أصحاب الأرض المسطحة " اتضحت ميولك وأهدافك من المقال وإسقاطك لهم بتحقيرهم وتقزيمهم ووصفهم بالعنصريين . فقط لأنهم خالفوا ما تعتقده " نظرية " قابلة للدحض أو القبول . وهب أن فرضيتهم وحجتهم أصبحت حقيقة . فبماذا ستصف نفسك ؟ فهل ستقول عن نفسك أنك مخطيء فقط ؟ أم أنك ستستقط على نفسك أشد عبارات التقزيم والتحقير . اجعل لنفسك مساحة تتحرك فيها . وإلا قد يخلد التاريخ اسمك ويقرأ أحفادك أنك كنت من الفئات القمعية . ولو أنك قدمت حجة أو براهين علمية لا لتثبت كروية الأرض بل ترد بها على إداعائتهم البسيطة . لكان أكثر قبولاً . فهل تجد نفسك أقصيت غيرك ؟ نعم .
ردحذفاستشهد بجزء من مقالتك المعنونة (خطورة الإعجاز العلمي)
ردحذففقد قلت "بل إن الأدهى من ذلك أن إحدى الأسس الثلاثة للعلم الحديث هي قابلية التكذيب. هذا يعني أن الحقيقة لا تعتبر "علمية" إلا إذا كانت قابلة للتكذيب. "
وكتبت أيضاً "التاريخ يعلمنا أن كل حقيقة علمية مهددة بالنسف بالكامل، أو بالتعديل في أحسن الأحوال، وأن المسلمات العلمية الخالدة ضرب من الخيال. عندما نعتقد اليوم بأننا وصلنا إلى مبلغ العلوم، وأن المنهج العلمي الحالي يقودنا إلى حقيقة لا شك فيها، فنحن نقع هنا بما أسميه بـ"غرور العلماء"، والذي وقع به كثير من عباقرة التاريخ. قبل 100 سنة تقريبا"
فنظرية كروية الأرض هي حقيقة علمية يعتريها ما يعتري غيرها من الحقائق العلمية حسب قولك إما بالنسف الكامل أو بالتعديل في أحسن الأحوال .
ونصيحة لك : لا تتوقف عن نقد المواضيع والأطروحات فأسلوبك رائع وجميل واطلاعك واسع. ولكن لا تنقد شخص أو فئة تخالف افكارك ومعتقداتك وتحتقر فكرهم أو ما يعتقدوه خصوصا إن كان هذا الفكر في أمر دنيوي لا عقدي قابل للأخذ والرد . ففي 4 مقالات جميلة كتبتها أنت - والتي لا تتجاوز مقدمة أحدى الكتب التي قرأتها- وقعت في تناقض فاضح .
ولي تعقيب على موضوع الاعجاز العلمي ستجده هناك . احترامي لك ولقلمك الرائع
وينك زمان عن كتاباتك نتمنى لك عودا حميدا
ردحذف